يعد مفهوم البيئة، والإهتمام بها، من المفاهيم الحديثة نسبياً، فقد ظهر في منتصف سبعينات القرن الماضي، وتقدم ليصبح أحد أهم المواضيع التي تشغل بال دول العالم كله،غنيها وفقيرها، لأن التغيرات المناخية البيئية، لا تنحصر في دول محدودة، بل تتجاوزها لكل قرية وبيت، مهما كان بعيداً في أطراف المعمورة، فمن ثقب الأوزون، للإحتباس الحراري، والتغيرات المناخية التي صارت ملموسة لكل منا، من خلال إرتفاع درجات الحرارة، صيفاً وشتاءً، وتناقص الأمطار والثلوج، أو تساقط الأمطار في خارج أوقاتها المعروفة، فهذه كلها من تأثيرات هذه التغيرات.
ولعل موضوع البيئة، يكاد أن يكون غائباً تماماً عن أحاديث رجال الدين، (بالطبع هناك من تكلم عن الموضوع) وخطب الجمعة، بل وربما يكاد أن يكون غائباً عن أحاديث رجال السياسة في أوطاننا العربية والإسلامية، جهلاً أو إنشغالاً عنه، مع أننا إذا راجعنا النصوص الدينية، من القرآن الكريم والسنة النبوية، سنجدها تتتحدث بصراحة عن هذه المفاهيم، ولكن لأن كثيراً منا، لا يقرؤون هذه النصوص، إلا من خلال أعين الفقهاء الأوائل، فلم تعد تثير هذه النصوص، غير ما أثارت لدى أولئك الفقهاء، ولو سألنا رجل دين عادي عن البيئة، لوجدنا حديثه واسعاً فضفاضاً دون أن يلامس بشكل مباشر هذه النصوص، مع أن بعض المفسرين قارب بعض المفاهيم البيئية التي نعرفها حالياً في شروحاته للقرآن الكريم، وأعني بذلك عدم الاذى المباشر، بمعنى عدم قطع الأشجار ونحو ذلك، مما كان مشاهداً في تلك العصور، وهنا تكمن المشكلة، فأغلب المتقدمين المتكلمين في التفسير، لم يوردوا مشاكل التلوث أثناء شروحاتهم للقرآن الكريم، مع أن الىيات واضحة الدلالة على ذلك.
بمتابعة كلام الله سبحانه وتعالى القرآن الكريم، سنجد أمثلة واضحة، انتبه إليها بعض المجتهدين والمشتغلين في الإعجاز العلمي كقوله تعالى في سورة الروم (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، حيث فسرعبد الدائم الكحيل، الفساد بأنه التلوث الذي نراه حالياً في الأرض والبحر، وهو ناتج بطبيعة الحال عن ما أنتجته وفعلته أيدي البشر في الأرض.
وواقع الأمر اننا إذا تقصينا لفظة الفساد في القرآن، فإننا سنجد أنها تحمل معنى التخريب المادي المباشر، إضافة للمعنى المعنوي من إحداث الذنوب وغيرها، كقوله تعالى في سورة البقرة (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) بل إن لفظة الفساد في القرآن ترافقت بشكل دائم تقريباً مع كلمة الأرض أو ما يدل عليها كالبر والبحر، ولكم أن تراجعوها عبر برامج البحث في القرآن الكريم، وهذه دلالة مباشرة على نوعية الفساد، فساد يغير بطبيعة الأرض، فيهلك الحرث والنسل، فهو متعدٍ، لا يضر فقط بالكائن الحي المعايش لهذا الإفساد، بل يصل للقادم من الأولاد والحيوانات، وكل ماهو نسل، فهو يضم حكماً كل مادة ضارة، يتم رميها و إلقائها في هذه الارض.
أما في السنة النبوية المطهرة، فلعل أبرز حديث يقرع ذهن المتأمل في هذا الموضوع، قوله عليه الصلاة والسلام:(الإيمان بضع وسبعون – أو بضع وستون – شُعبة، أعلاها: قول: لا إله إلا الله. وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان) متفق عليه، وبرغم وضوح الحديث أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، وبرغم الحديث الآخر (كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع عليه الشمس، يعدل بين اثنين، ويعين الرجل في دابته، ويحمله عليها، ويرفع له عليها متاعه، ويميط الأذى عن الطريق صدقة) صحيح ابن حبان، لكن الخطاب الديني، لم يستطع أن يحرر إماطة الأذى لتشمل أي شيء قد يؤذي، ولم تستطع التفسيرات والشروحات أن تشمل التلوث بكل أشكاله ومعانيه.
غير أن الغريب في الأمر، أن قوله عليه الصلاة والسلام ( جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) لم يخرج عن كونه رخصة للصلاة بأي أرض، وأن الأصل في الأرض الطهارة، وفي حقيقة الأمر، لو تأملنا في هذا الحديث، لوجدناه يقول أن الأرض تحولت لمسجد، لها قدسية المسجد، ولها حقوق المسجد وواجباته، ولها حرمته أيضاً، فما لايجوز فعله في المسجد، لا يجوز فعله بهذه الارض، كالإهمال والتلويث والإفساد، بل لعل العبرة بالنهي عن الإفساد بالأرض أن كونها مسجدٌ للتعبد والصلاة، فالأصل أننا مستخلفون بهذه الأرض لعمارتها، عمارةٌ تجعلها في النهاية مكاناً لا يعبد فيه إلا الله وحده، تماماً كالمسجد.
إن تحرير النصوص الدينية، من المفاهيم التي تتوقف عند نصها، دون النظر لعمق معناها، هو ما يجعل الكثير يظنون أن هذا الدين لا يهتم بمثل هذه القضايا، وتحريرها وإعمال العقل فيها، بما يتناسب مع مقاصد الشريعة، هو ما يجعلنا نؤكد أن صلاحية الدين الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون الدين الخاتم، صلاحية تتجاوز الزمان والمكان الذي نزل فيها هذا الدين، كما يتجاوز فهم المتقدمين لنصوصه، دون الإساءة لشخوصهم واجتهاداتهم.