رمضان .. أيام معدودات ، ولكن نفحاته بالدهر كله ، علامة فارقة على امتداد أيام العمر ، مرتبط ارتباطا وثيقا بمباهج معينة عند قدومه ، وأشجان فارطة عند فراقه ، شهر له قدرة تأثيرية لاتتغير مع تبدل الأيام والأعوام ، فرمضان منذ طفولتى وحتى الأن .. رحلة من تصورات وجدانية مختزلة بمخيلتى ، لازالت تنبض بقدرة العطاء والصفاء الذهنى فى استجلاب كل ماكان متعلقا بأيام زمان ، يصطحب معه كل جميل ، فتتغير شكل الأيام فى وجوده ، وتتبدل الأحوال فيه عما سواه ، وأول شيئ يقفز إلى نفسى هو الشعور العميق بالإطمئنان بأن العفاريت ستصفد مع أول ليلة منه ، فأكون حرا فى السهر واللعب فى الشارع ، كنت أتحرر من خوفى الدائم ، ولاغرابة فقد كنا نقطن فى شارع الشيخ القويسنى ، وهو شارع ضيق عتيق من شوارع منطقة الظاهر بالقاهرة القديمة ، يعتبر امتدادا لشارع الحسينية ، يفصله عنه شارع الجيش ، فى منزل نالت السنون منه وأخذت الأيام الكثير ، وطاله الهرم ، قيل أن مالكه الحقيقى هو الشيخ على محمود طه المنشد والقارئ المعروف قبل أن تنتقل ملكيته لعم سعيد ، سمعنا عنه روايات كثيرة وحكايات مثيرة ، كلها تستدعى الخوف المريع ، لهذا كانت أمى دائما تطلب منى فى الأيام العادية العودة قبل حلول المغرب وقبل غروب الشمس بوقت كاف حتى أتجنب العفاريت التى كانت تظهر بين الحين والأخر ، وخاصة عند بئر السلم الذى قيل عنه أنه شهد موت إحدى ساكيناته حرقا ، ولأن العفاريت تفقد حريتها فى رمضان ، فهذا يعنى الإنطلاق والمرح ، وتبدأ الحياة فى التغيير .. وشكل الشارع كله إلى التبديل ، لتظهر معانى جديدة تبدأ بليلة رؤية هلال رمضان .. تواشيح الفجر .. حديث الصيام .. مدفع الإفطار وصوت الشيخ محمد رفعت ودعاء الشيخ سيد النقشبندى .. اللمة على السفرة .. الفول المدمس .. الزبادى .. المخلل .. الكنافة والقطائف .. الفانوس .. الزينات والأضواء المبهرة التى تحيل الليل إلى نهار .. الإذاعة المصرية والبرنامج العام ومسلسل ألف ليلة وليلة ومسلسل أحسن القصص وفوازير آمال فهمى .. صلاة القيام والتسابيح والتهجد فى جامع الظاهر بيبرس .. المسحراتى الحقيقى والشيخ سيد مكاوى مسحراتى الإذاعة .. السهر فى الحسين وقهوة الفيشاوى .. السير فى شارع المعز لدين الله الفاطمى والقلعة والجمالية وباب الشعرية والظاهر . كنا نسكن ثلاث أسر فى شقة واحدة ، نحن وخالتى وجدى عن أمى ، لانجتمع جميعا إلا فى رمضان ، كان شهرا رائعا فى الحركة والثبات ، فقبل المغرب تبدو الحركة أكثر وجوبا فى إعداد موائد الإفطار التى كانت تذخر بألذ وأطيب المأكولات والمشروبات ، وعند إطلاق مدفع الإفطار يبدو الثبات .. لاصوت فيه يعلو على ارتطام الملاعق بالصحون .. وهمهمات نهم الطعام ، نوع من التغيير النوعى والكمى لشكل الحياة . عم أحمد بائع الزبادى كان يحضر يوميا لمنزلنا فى رمضان إنه من لوازم السحور ، كان يحمل على يديه دولابا صغيرا به عدد من الأرفف وعلى واجهته ضلفتان من الزجاج ، بداخله يرص الزبادى فى أحجام وكل بثمنه ، كان الزبادى وقتئذ يباع فى أوان فخارية ، اسم الآنية " سلطانية " لازلت أذكر طعم سلاطين الزبادى الأقرب إلى الطبيعى عن االذى يباع الأن ، أما باعة الفول المدمس الذين لايظهرون إلا مع شروق الشمس بقدر الفول المكمورة فى المستودعات التى تعلو الحمامات البلدية ، يظهرون فى رمضان ولكن بعد صلاة العصر ، لازلت أتذكر عم محمد وأولاده وموقعهم المميز عند تقاطع شارعى طورسيناء والشيخ قمر ، الفول المدمس عندهم كان مميزا للغاية ، لذلك كان تهافت الناس وتسابقها على الشراء منهم ، وكنا أحيانا لانتمكن من اللحاق بهم ، فيكون البديل وبلا تردد الذهاب إلى عم مصطفى ، والذهاب لعم مصطفى يتطلب السير لأخر شارع الشيخ قمر ، حتى تقاطع ميدان الجيش ، ومنه لشارع الحسينية ، حيث يقع دكانه فى أوله ، كان عم مصطفى رجلا عجوزا .. طيب الملامح يرتدى جلبابا عليه سترة محكومة بحزام فى وسطه لها جيب كبير يضع فيه العملات المعدنية ، على رأسه عمامة كبيرة ، كان يفكرنى بالشخوص المملوكية التى رأيناها وعرفناه من خلال رسومات الحملة الفرنسية . لاأظن أن عم مصطفى يعرف مكانا آخر غير حدود هذا الدكان العتيق الذى بدا كالأطلال ، يقف بداخله وحده والناس خارجه ، لاشيئ يهم عنده سوى قدرة الفول ، أظنه أنه كان يضع فيها همه ويفنى فيها عمره ، لذلك كان يتفنن فى تقديم أجمل طبق من الفول المدمس بالزيت الحار وبمشهياته مع نصف ليمونه كان حريصا على وضعها فى وسط هذه الدقة المميزة .
ومادمنا وصلنا إلى هنا فلابأس من اقتناء سلطانية من المخلل بالجرجير والمياه المشطشطة .. والمخلل وشهر رمضان يستدعيان إلى ذاكرتى شخصية معروفة فى هذا المكان من شارع الحسينية هو عبد الباسط ، وعبد الباسط هذا كان رجلا فارع الطول .. نحيلا ، يضع عمامة بسيطة على رأسه ، يشمر عن ساعديه ، يقف نظيفا بين براميل خشبية كبيرة وأخرى زجاجية صغيرة ، كنت أحب أن أتأمله وأنا أتعامل معه .. كان يتطلع إلى زبائنه بنظراته المحدقة التى يملؤها الحنين ، ذلك ماكان يعرف عنه وعن طيبة قلبه فكانت علاقته بزبائنه علاقة تبادلية يسودها الود والإحترام ، كان بمجرد أن يرانى سرعان ماكان يأخذ منى الصحن الفارغ الذى جئت به ويبدأ فى تلبية طلبى بوضع الجرجير فى قاعه ، ثم يبدأ بسحب كل صنف من القدور الفخارية والأوعية الزجاجية الزاخرة أمامه بكل مالذ وطاب من الليمون والزيتون الأخضر والبصل الصغير واللفت والفلفل والخيار والجزر بقفازين حتى لاتلمس يداه الثمار المخللة ، ومتى فرغ من إعداده يطلب منى تحديد نوعية المياه الذى أريدها : حريفة أم عادية ، وكنت دائما أطلبها حريفة مشطشطة المزودة بالكمون والبهارات والملح والخل ، وكان فى كل مرة لايسأم من التأكيد على أنه أفضل طرشجى فى مصر وأنه لايوجد أحد يستطيع صنع ماء الطرشى مثله ، لأنها معمولة بنسب معينة ورثها عن أجداده .
ومع رمضان ينفرط الحنين إلى بقية شخوصه المميزة المستقرة فى ذهنى ، وطبيعى أن تكون الإنفراجة التالية من نصيب عم على المسحراتى ، صاحب الصوت المميز ، الذى لازالت كلماته تجد لها صدى فى جنبات فكرى " ياعباد الله وحدوا الله ، اصحى يانايم قوم ووحد الدايم ، قوم يافلان واصحى ياعلان اتسحروا وصلوا على النبى " نداء منغم ومفعم ، ينضوى على كل مايحتويه القلب من تطلع إلى اكتشاف شخصية هذا الرجل بهيئته المهيبة والتى تفصح عن رجل قوى البنية .. يبدو عملاقا ، طويلا .. عريض المنكبين ، كان من معالم المكان .. يقطن فى عشة ملتصقة بسور مدرسة طورسيناء ، صنعها بنفسه من شرائح صفائح الجبن الكبيرة وبقايا خشب الورش المجاورة ومحاط بإطارات السيارات القديمة ، كان عم على لايلفت النظر إليه طوال العام ، ولكن الناس تتذكره فجأة فى رمضان وتغدق عليه بالأموال والطعام ، كنت أراه يشد طبلته على نار هادئة ، يوقدها من بقايا الخشب قبل الخروج لمهمة التسحير ، كنت أرقب مجيئه وأخمن ميعاده ، حيث كان لا يصل لمنزلنا قبل ساعة من بدء مروره ، لازلت انتظره حتى تحمل نسائم الليل صوته قادما عن بعد ، متنقلا من منزل لأخر ، ومع قربه لمنزلنا يقوى صوته شيئا فشيئ حتى يبلغ مدخل منزلنا الواسع ، ويبدأ فى سرد اسماء الذكور مناديا ، حتى إذا ما سمعت اسمى واسم والدى وجدى وأخوالى ينتابنى السرور ، وأنصرف لتناول السحور ، ورغم أن دوره لم يعد أساسيا إلا أنه من مباهج رمضان وتجلياته .
وفى رمضان يحلو السهر ، لم يعد هناك نوم ولذلك تعد الفترة الفاصلة من المغرب حتى السحور هى الفترة الحافلة بالذكريات ، اتصلت بفضل الإذاعة والتليفزيون ، ولكن يبقى رائدها بالنسبة لى الإذاعة المصرية وتحديدا البرنامج العام ، كنت ولازلت من عشاق الإذاعة ، رغم أن الكثيرين يفضلون البرامج والمسلسلات التليفزيونية ، إلا أن سحر الإذاعة وإضفائها لجو يخلق معه آفاق رحبة ينسج الخيال فيها ما يمحنه عقل الإنسان وقدرته على التخيل واستلهام روح المكان ورسم ديكوراته وخاصة إذا ماكانت الأعمال الدرامية تاريخية أو دينية أو اسطورية ، لذلك حملت ذاكرتى ولازالت أعمالا درامية لايوجد أجمل ولاأروع منها : كمسلسل ألف ليلة وليلة لطاهر أبو فاشا وإخراج رائد الإذاعة محمد محمود شعبان ، ومسلسل أحسن القصص من إعداد محمد على ماهر وإخراج يوسف الحطاب ، وفوازير آمال فهمى ، والمسلسل الكوميدى السنوى لفؤاد المهندس وشويكار الذى نسمعه بعد الإفطار مباشرة ، كنا ننتظره من العام للعام .