الجزئ الثاني من موضوع وسائل الثبات
سادساً : الحرص على أن يسلك المسلم طريقاً صحيحاً :
والطريق الوحيد الصحيح الذي يجب على كل مسلم سلوكه هو طريق أهل السنة والجماعة ، طريق الطائفة المنصورة والفرقة الناجية ، أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم واتباع السنة والدليل ، والتميز عن أعداء الله ومفاصلة أهل الباطل ..
وإذا أردت أن تعرف قيمة هذا في الثبات فتأمل وسائل نفسك : لماذا ضل كثير من السابقين واللاحقين وتحيروا ولم تثبت أقدامهم على الصراط المستقيم ولا ماتوا عليه ؟ أو وصلوا إليه بعدما انقضى جل عمرهم وأضاعوا أوقاتاً ثمينة من حياتهم ؟؟.
فترى أحدهم يتنقل في منازل البدع والضلال من الفلسفة إلى علم الكلام والاعتزال إلى التحريف والتأويل إلى التفويض والإرجاء ، ومن طريقة في التصوف إلى أخرى ..
وهكذا أهل البدع يتحيرون ويضطربون ، وانظر كيف حُرم أهل الكلام الثبات عند الممات فقال السلف : " أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام " لكن فكر وتدبر هل رجع من أهل السنة والجماعة عن طريقه سَخْطَةً بعد إذ عرفه وفقه وسلكه ؟ قد يتركه لأهواء وشهوات أو لشبهات عرضت لعقله الضعيف ، لكن لا يتركه لأنه قد رأى أصح منه أو تبين له بطلانه .
ومصداق هذا مساءلة هرقل لأبي سفيان عن أتباع محمد e ؟ قال هرقل لأبي سفيان : " فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ " قال أبو سفيان : لا . ثم قال هرقل : " وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب " رواه البخاري ، الفتح 1/32 .
سمعنا كثيراً عن كبار تنقلوا في منازل البدع وآخرين هداهم الله فتركوا الباطل وانتقلوا إلى مذهب أهل السنة والجماعة ساخطين على مذاهبهم الأولى ، ولكن هل سمعنا العكس ؟!
فإن أردت الثبات فعليك بسبيل المؤمنين .
سابعاً : التربية :
التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة عامل أساسي من عوامل الثبات .
التربية الإيمانية : التي تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة ، المنافية للجفاف الناتج من البعد عن نصوص القرآن والسنة ، والعكوف على أقاويل الرجال .
التربية العلمية : القائمة على الدليل الصحيح المنافية للتقليد والأمعية الذميمة .
التربية الواعية : التي لا تعرف سبيل المجرمين وتدرس خطط أعداء الإسلام وتحيط بالواقع علماً وبالأحداث فهماً وتقويماً ، المنافية للانغلق والتقوقع على البيئات الصغيرة المحدودة .
التربية المتدرجة : التي تسير بالمسلم شيئاً فشيئاً ، ترتقي به في مدارج كماله بتخطيط موزون ، والمنافية للارتجال والتسرع والقفزات المحطمة .
ولكي ندرك أهمية هذا العنصر من عناصر الثبات ، فلنعد إلى سيرة رسول الله e ونسائل أنفسنا .
- ما هو مصدر ثبات صحابة النبي e في مكة ، إبان فترة الاضطهاد ؟
- كيف ثبت بلال وخباب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب وغيره ؟
- هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة ، صقلت شخصياتهم ؟
لنأخذ رجلاً صحابياً مثل خباب بن الأرت رضي الله عنه ، الذي كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر فلا يطفئها إلا ودك ( أي الشحم ) ظهره حين يسيل عليها ، ما الذي جعله يصبر على هذا كله ؟ .
- وبلال تحت الصخرة في الرمضاء ، وسمية في الأغلال والسلاسل ..
- وسؤال منبثق من موقف آخر في العهد المدني ، من الذي ثبت مع النبي e في حُنين لما انهزم أكثر المسلمين ؟ هل هم حديثو العهد بالإسلام ومُسلِمة الفتح الذين لم يتربوا وقتاً كافياً في مدرسة النبوة والذين خرج كثير منهم طلباً للغنائم ؟ كلا .. إن غالب من ثبت هم أولئك الصفوة المؤمنة التي تلقت قدراً عظيماً من التربية على يد رسول الله e .
لو لم تكن هناك تربية ترى هل كان سيثبت هؤلاء ؟
ثامناً : الثقة بالطريق :
لا شك أنه كلما ازدادت الثقة بالطريق الذي يسلكه المسلم ، كان ثباته عليه أكبر .. ولهذا وسائل منها :
- استشعار أن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً ولا وليد قرنك وزمانك ، وإنما هو طريق عتيق ( عتيق صفة مدح ) قد سار فيه من قبلك الأنبياء والصديقون والعلماء والشهداء والصالحون ، فتزول غربتك ، وتتبدل وحشتك أنساً ، وكآبتك فرحاً وسروراً ، لأنك تشعر بأن أولئك كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج.
- الشعور بالاصطفاء ، قال الله عز وجل : ( الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ) النمل /59 . وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) فاطر /32 . وقال : ( وكذلك يجتبك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ) يوسف /6 . وكما أن الله اصطفى الأنبياء فللصالحين نصيب من ذلك الاصطفاء وهو ما ورثوه من علوم الأنبياء .
- ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً ، أو دابة ، أو كافراً ملحداً ، أو داعياً إلى بدعة ، أو فاسقاً ، أو مسلماً غير داعية لإسلامه ، أو داعية في طريق متعدد الأخطاء ؟
- ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك وأنْ جعلك داعية من أهل السنة والجماعة من عوامل ثباتك على منهجك وطريقك ؟
تاسعاً : ممارسة الدعوة إلى الله عز وجل :
النفس إن لم تتحرك تأسن ، وإن لم تنطلق تتعفن ، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس : الدعوة إلى الله ، فهي وظيفة الرسل ، ومخلصة النفس من العذاب ؛ فيها تتفجر الطاقات ، وتنجز المهمات ( فلذلك فادع ، واستقم كما أمرت ) . وليس يصح شيء يقال فيه " فلان لا يتقدم ولا يتأخر " فإن النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ، والإيمان يزيد وينقص .
والدعوة إلى المنهج الصحيح - ببذل الوقت ، وكدّ الفكر ، وسعي الجسد ، وانطلاق اللسان ، بحيث تصبح الدعوة هم المسلم وشغله الشاغل - يقطع الطريق على محاولات الشيطان بالإضلال والفتنة .
زد على ذلك ما يحدث في نفس الداعية من الشعور بالتحدي تجاه العوائق ، والمعاندين ، وأهل الباطل ، وهو يسير في مشواره الدعوي ، فيرتقي إيمانه ، وتقوى أركانه .
فتكون الدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم وسيلة من وسائل الثبات ، والحماية من التراجع والتقهقر ، لأن الذي يُهاجم لا يحتاج للدفاع ، والله مع الدعاة يثبتهم ويسدد خطاهم والداعية كالطبيب يحارب المرض بخبرته وعلمه ، وبمحاربته في الآخرين فهو أبعد من غيره عن الوقوع فيه .
عاشراً : الالتفاف حول العناصر المثبتة :
تلك العناصر التي من صفاتها ما أخبرنا به عليه الصلاة والسلام : ( إن من الناس ناساً مفاتيح للخير مغاليق للشر ) حسن رواه ابن ماجة عن أنس مرفوعاً 237 وابن أبي عاصم في كتاب السنة 1/127 وانظر السلسلة الصحيحة 1332 .
البحث عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين ، والالتفاف حولهم معين كبير على الثبات . وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال .
ومن ذلك : ما قاله علي بن المديني رحمه الله تعالى " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة " .
وتأمل ما قاله ابن القيم رحمه الله عن دور شيخه شيخ الإسلام في التثبيت : " وكنا إذا اشتد بنا الخوف ، وساءت بنا الظنون ، وضاقت بنا الأرض أتيناه ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا ، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة ، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل ، وآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها " . الوابل الصيب ص 97 .
وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت ، فإخوانك الصالحون والقدوات والمربون هم العون لك في الطريق ، والركن الشديد الذي تأوي إليه فيثبتوك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الزمهم وعش في أكنافهم وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية . ابقوا معي في الجزئ الثالث لهذا الموضوع